ثم بعد ذلك نجد الفرق الهائل والكبير بين القرآن وبين
التوراة في هذا الشأن! فإذا كانت
التوراة تقول: إن إبراهيم عليه السلام ولد في حياة نوح! فهذه مفارقة عجيبة بالنسبة للعرب في الجاهلية فضلاً عن صريح القرآن في الإسلام؛ فنحن نجد في القرآن غير ذلك تماماً.نجد أن الله سبحانه وتعالى ذكر أمماً بعد ذلك, وبتفصيل وبتأكيد؛ فمثلاً: قوم عاد جاءوا بعد قوم نوح, يقول الله تبارك وتعالى: ((
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ))[الأعراف:69]؛ فبين أنه من بعد قوم نوح جاء قوم عاد, ثم بعد ذلك جاءت ثمود، قال: ((
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ ))[الأعراف:74], فهذا ترتيب قطعي صريح؛ أن الأمتين العظيمتين هاتين كانتا في المرحلة ما بين نوح وما بين إبراهيم عليه السلام، وأيضاً بعدهم أمم وقرون أخرى إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.لكن كم بقيت عاد؟ هذا أيضاً لا ندري. فعاد فيما يظهر من الدراسات الحديثة والأخبار والآثار القديمة -من مجموعها- نحن نجملها الآن, وعندما نأتي على بعض المواضع كبناء الأهرامات أو غيره قد نفصل أكثر إن شاء الله- نقول: هناك أمد بعيد, وهناك حضارة عظيمة، ودولة هائلة, وهناك منشآت ضخمة، وهناك جزء كبير من تاريخ البشرية المهم جداً؛ تحت اسم (عاد) أو (عاد الأولى) التي هي ((
إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ))[الفجر:7], وما يدل على ذلك ما سنعرضه إن شاء الله في بابه من عظم خِلْقة قوم عاد, وأنهم لا يزالون من القرون الأولى العظيمة الخِلقة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لما أنزل آدم عليه السلام إلى الأرض كان طوله ستين ذراعاً، كان (
مثل النخلة السحوق) كما جاء في بعض الأحاديث الصحيحة.وعاد لا تزال على الخلقة العظيمة حتى أن
شامبليون الذي فك رموز حروف: حجر رشيد يقول: إن هذه المعابد والمعالم العظيمة الهائلة في
مصر إنما بناها قوم طول أحدهم مائة قدم, وطبعاً مائة قدم أكثر من ثلاثين متراً. فهنا نجد حضارة هائلة جداً, ونشير إلى قضية مهمة -إن شاء الله سيأتي لها تفصيل أيضاً- عندما يقال هذا عن عاد فنحن نجزم أن عاداً تسكن
جزيرة العرب، كما قال تعالى: ((
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ ))[الأحقاف:21], والأحقاف كانت في
جزيرة العرب قطعاً، إذاً: المكمن الحقيقي في آثار عاد ليس ما بين النهرين ولا
مصر؛ مع أنه من الممكن امتدادها إلى هذه البلاد, وأن تكون أنشأت وشادت وعمرت ما لا يعلمه إلا الله, وبقيت بعض آثارهم؛ لكن المكان الحقيقي لآثار عاد ولأخبارها هو
جزيرة العرب التي سوف نرى فيما بعد أنها مهد الحضارات، ولا سيما القسم الجنوبي منها.وقد اكتشف في السنوات الأخيرة عدة حجارة مكتوب عليها: لا إله إلا الله هود نبي الله؛ بل العجيب أن نجد أن هذا مذكور في كتب علماءنا، كما في
تفسير ابن كثير، وفي
تاريخ ابن عساكر، وفي
الدر المنثور للإمام
السيوطي؛ مذكور فيها: أنه وُجد حجارة مكتوب عليها: فلانة حُبّى وسلمى تشهدان أن لا إله إلا الله وأن هوداً رسول الله.فالحضارة تلك حضارة قديمة موغلة في القدم، أقدم مما يتحدثون عنه في كثير مما اكتشفوا في
بلاد الرافدين أو في
مصر .نحن لا زلنا في السياق العام ولم ندخل في التفاصيل؛ لكن نشير إشارات فقط.فعلى هذا إذاً هناك حقبة طويلة شملت عاداً, ثم بعد ذلك أهلك الله تبارك وتعالى الكافرين منهم وبقي المؤمنون ما شاء الله أن يبقوا، ثم جاءت السنة الثابتة والدائمة في حياة البشرية أن يقعوا في الشرك وأن ينحرفوا، فكانت الأمة التي جاءت من بعد هي أمة ثمود وهم قوم صالح عليه السلام, وهم أصحاب الناقة, وهم أيضاً في
جزيرة العرب، ولا يعلم إلا الله تبارك وتعالى كم عاشت هذه الأمة قبل أن يبعث فيهم, وكم بقي فيهم, ثم جاءهم العذاب؛ فأهلكوا وانتهت بذلك أيضاً هذه الأمة من بعد قوم عاد.